كلمة حب وصدق في ثمانينية محمود شقير
بمناسبة بلوغ الكاتب المقدسي محمود شقير في الخامس عشر من آذار عام 2021 الثمانين عاما فإنه لمن حقه علينا أن نحتفي به وبوجوده علامة مميزة في مسيرة الإبداع الفلسطيني والعربي
بقلم: فراس حج محمد
بمناسبة بلوغ الكاتب المقدسي محمود شقير في الخامس عشر من آذار عام 2021 الثمانين عاماً، فإنه لمن حقّه علينا أن نحتفيَ به، وبوجوده علامة مميزة في مسيرة الإبداع الفلسطيني والعربي. كاتب ينحاز إلى البساطة والعمق؛ بعيدا عن لغة الثقافة الملتوية التي ينتهجها كثير من الكتّاب والمثقفين؛ ظناً منهم أنهم بذلك يكونون مثقفين، ولم يدروا أن العمق كامن في البساطة.
لقد انحاز شقير على مدى عمره الإبداعي الممتد إلى السرد بأشكاله كافة من القصة القصيرة جدا وحتى الرواية، مرورا بالقصة القصيرة وكتابة السيناريو، وكتب للكبار وللصغار، مرورا أيضا بفئة الفتيان والفتيات، لذلك فقد تخلّق بين يديه الكثير من الشخصيات من الأعمار كافة، ومن الجنسين، ومن الخلفيات الثقافية المتعددة، ومن شرائح مجتمعية مختلفة، لقد خلق عالما حافلا بالحياة والفكر والنقاش والاختلاف، متبنياً قضايا التنوير، فاسحاً المجال لتلك الشخصيات أن تحيا حياة طبيعية، سواء في ذلك نساؤه ورجاله، فتيانه وفتياته، أطفاله وطفلاته. كلهم كانوا ينشأون بعقلية التنوير الذي أنشأ تلك الكتب السردية المترامية الحدود الزاخرة بالحب والجمال والناضحة بالحياة والحيوية.
بل إنه- وهو الكاتب الرصين الرزين- عادة ما يبدأ خطاباته وكلماته بالصديقات أو السيدات أو الأخوات، تعزيزا لحضور المرأة في وعينا، وردا على ما اعتدنا عليه من تقديم الذكور على الإناث في خطاباتنا ولغتنا.
لقد كان لي شرف معرفة الأستاذ شقير عن قرب، بحكم العمل سويا في جمعية الزيزفونة برفقة صديقنا شريف سمحان، فكان كاتب المجلتين، الصغيرة والكبيرة، فلم يغب عن أي عدد من أعدادهما منذ العدد الأول وحتى توقفتا عن الصدور، وكان يكتب بحب دون مقابل. وهذا موقف يجب أن يذكر؛ ففي الوقت الذي كان يشترط كثير من الكتاب الحصول على مقابل مادي مقابل مادته التي يتمنن بها على المجلة، وكأنه الكاتب الفذ الذي لم يخلق له مثيل، كان محمود شقير دائما حاضراَ في مادته السردية دون أن ينظر إلى المقابل المادي.
وتقديرا لجهوده وإصداراته والوقوف مع المجلة والجمعية، ولكونه أستاذا كبيرا ذا إنتاج رصين وكبير، فقد تم تكريم الأستاذ شقير في أول مؤتمر عقد في رام الله يومي السبت والأحد 21-22/ 3/2015 لأدب الأطفال تحت شعار “نحو أدب أطفال وطني”.
وليس هذا وحسب، بل جمعتني مع الأستاذ محمود شقير لقاءات وندوات، وكان أولها أن أتاح لي أن أقدّم ورقة بحثية في مؤتمر فؤاد نصار الذي عقد في رام الله حول التعليم تحت عنوان “نحو تعليم عصري لتحقيق التنمية الاجتماعية”، وعقد المؤتمر في مقر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله، يومي الأحد والاثنين 23 و24/3/2014، وحضره وشارك فيه نخبة من الباحثين والأكاديمين وممثلو عن وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية والمؤسسات ذات العلاقة. ولم أكن من ضمن المشاركين في البرنامج، ولكن الأستاذ محمود شقير أتاح لي تقديم ورقة مقتضبة في إحدى جلسات المؤتمر في يومه الثاني في جلسة المؤتمر الأخيرة.
وعندما تمت استضافة الكاتب محمود شقير ضمن لقاءات الأدباء مع المدارس بتنسيق من جمعية الزيزفونة، حدث أن استضفناه في مديرية التربية والتعليم/ جنوب نابلس عام 2013 لمناقشة مجموعته “أنا وفطوم والريح والغيوم”، وحظيت بشرف تقديمه في تلك الندوة وإدارتها، وكذلك أيضا عندما استضافه منتدى المنارة للثقافة والإبداع عام 2016؛ للحديث عن كتابه “رام الله التي هناك” الصادر عن جمعية الزيزفونة، وكان اللقاء في إحدى قاعات مكتبة بلدية نابلس، فقد كنت ممن قدم ورقة نقدية خلال الندوة، وكانت ندوة ناجحة غصت القاعة بالحضور، ما أثلج صدر الأستاذ شقير، فقد كان احتفاء حقيقيا، من الجمهور التربوي والثقافي في محافظة نابلس.
أما على صعيد الكتابة، فقد كتبت في مؤلفات الأديب محمود شقير، ووقفت عند مجموعة من مؤلفاته للأطفال، وقد ضمنت كل ما كتبته عن الأستاذ محمود شقير في فصل خاص تحت عنوان “محمود شقير والكتابة للأطفال” من كتابي “ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد”، وقد صدر الكتاب عام 2019 عن مؤسسة أنصار الضاد في مدينة أم الفحم. ويضم الفصل أربع مقالات حول أربعة أعمال كانت جمعية الزيزفونة قد نشرتها. عدا أنني ألقيت كلمة احتفالية خلال تكريم الأستاذ محمود شقير، التكريم الذي تحدثت عنه آنفاً في اليوم الثاني من مؤتمر الأطفال الأول لجمعية الزيزفونة.
لقد كان محمود شقير يعلق عقب كل مقال أكتبه بدماثة وطيبة، متقبلا بعض الملاحظات النقدية التي يمكن أن تكون موجودة في المقال، ولم يكن يضيق ذرعا بها، بل كان يعبر عن امتنانه، وربما أكثر من ذلك، فيسلم بدقة بعض تلك الملحوظات. لقد كان متنورا في أدبه وكان متنورا في قبوله ملحوظاتنا نحن القراء أو الكتاب الذين كنا في عمر أبنائه، وإلى الآن فإنني أراه بين الحين والآخر يقدم شكره ويتفاعل مع الجميع من القراء خلال صفحته على الفيسبوك أو من خلال التعليق ومشاركة الأراء ومناقشتها مع من يكتبون عنه. إنه مثال للكاتب الفذّ المعطاء والودود.
وعلى صعيد الكتابة أيضاً، فإنني قد ظفرت من الأستاذ شقير بمقدمة رائقة ومعبرة واستثنائية لكتابي “يوميات كاتب يدعى X”، فيثني على الكتاب وأسلوبه ونصوصه، فكانت تلك المقدمة وسام شرف أو قل إنها شهادة اعتراف أنالها من قامة أدبية رفيعة، تكرس حضوري السردي في حركة الأدب الفلسطيني.
ولإدراكي العميق بأهمية ما قدمه محمود شقير من سرد؛ رواية وقصة ومذكرات وسيرة ذاتية، فإنني اقترحت مؤخرا على أحد أصدقائي الذي يتأهب لمرحلة الدكتوراه أن يدرس ثلاثية محمود شقير الروائية (فرس العائلة، ومديح لنساء العائلة، وظلال العائلة) تحت مصطلح “التخييل الذاتي”، لما لثلاثيته الروائية من اتصال بحياته الشخصية. وتم قبول الاقتراح، ولكن بالمقارنة مع روايتين للأديبة سحر خليفة.
سيظل محمود شقير تلك القامة الأدبية الرفيعة، النبيل في أخلاقه، المتسع في عطائه، الشاسع في إنجازته، فكل عام وأنت بألف خير أستاذنا (أبو خالد)، ونردد معك ما رددتَه في يوم بلوغك الثمانين أن تلك الثمانين التي تعيشها لم تنل من عزيمتك ولم توهنها، فلم تسألم ولن تسأم. العمر المديد، ومزيدا من الإبداع.